مدن ضد النساء.. البنية الذكورية خلقت مساحات غير آمنة وغير عادلة للنساء

مدن ضد النساء.. البنية الذكورية خلقت مساحات غير آمنة وغير عادلة للنساء
الناشطة النسوية أدا بازنجر

تتجلى في المدن الحديثة معركة صامتة بين هندسة المكان والعدالة الاجتماعية، حيث تظل الفجوة بين الجنسين حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، من التخطيط العمراني إلى إدارة الموارد والخدمات، فالعقلية الذكورية التي حكمت بناء المدن لعقود جعلت من الفضاء العام مساحة غير آمنة وغير عادلة للنساء، تقصيهن عن القرار وتختزل وجودهن في أدوار الرعاية المنزلية.

قيدت الفجوة بين الجنسين حياة النساء في مختلف أنحاء العالم، وأفرزت مدناً بُنيت بعقلية تستبعد المرأة من الفضاء العام، فمن التمييز في مواقع القيادة، إلى الميزانيات غير الحساسة للنوع الاجتماعي، وصولاً إلى طمس الذاكرة النسائية في الشوارع والمباني العامة، تتكرس منظومة تهمّش النساء وتختزل مساهماتهن في المجال الخاص فقط، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الخميس.

لكن تجارب دولية عدة أثبتت أن إعادة النظر في علاقة المرأة بالمدينة يمكن أن تُحدث تحولاً جذرياً، ليس في البنية المادية فحسب، بل في الفهم الديمقراطي للفضاء الحضري، ففي بوغوتا الكولومبية مثلاً، أعادت السلطات تخطيط أحياء المدينة عبر مشروع "جزر الرعاية" لتخفيف عبء الرعاية عن النساء من خلال توفير مرافق حضانات ومغاسل ومراكز تعليمية.

وفي كيتو بالإكوادور، تم دمج مكافحة التحرش في التصميم الحضري بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، ما عزز أمن النقل الليلي والأماكن العامة، أما روزاريو الأرجنتينية فاعتمدت نموذج ميزانية تشاركية يراعي النوع الاجتماعي، بينما أعادت أوميو السويدية تسمية شوارعها لتروي قصص نساء صنعن تاريخ المدينة. 

وفي كيرالا الهندية، قادت شبكات "كودومباشري" أكثر من أربعة ملايين امرأة لإدارة الأحياء والمشاركة في صنع القرار الاقتصادي والسياسي.

مدن فقدت ذاكرة نسائها

في المقابل، تكشف التجربة الكردية في تركيا عن الوجه الآخر للمدينة الذكورية، ففي شمال كردستان، تتجلى سياسات الإقصاء، إذ شهدت المنطقة خلال أعوام 2016 و2019 و2024 تعيين أوصياء حكوميين على البلديات المنتخبة، ما أدى إلى تدمير البنية الديمقراطية المحلية واستهداف مكاسب النساء السياسية والاجتماعية.

بدأ الأوصياء فور تعيينهم بإغلاق مراكز النساء ودور الإيواء، واستبدال مديرات المؤسسات النسوية برجال، كما صودرت ملفات الناجيات من العنف الأسري، ما عرض حياتهن للخطر. 

وتم أيضاً تغيير أسماء الحدائق والساحات العامة التي تحمل رموزاً نسائية، في محاولة لطمس الذاكرة الجمعية للنساء ومحو أثرهن من المشهد العام.

تقول أدا بازنجر، منسقة وحدة التعليم في مديرية سياسات المرأة باتحاد بلديات جنوب شرق الأناضول (GABB)، إن “ما حدث لم يكن مجرد استهداف سياسي، بل محاولة لإعادة هندسة المدينة بما يخدم العقلية الذكورية ويقصي النساء من القرار والذاكرة معاً”.

مشروع "مدينة المرأة"

رداً على هذه السياسات، أطلقت الإدارات المحلية التابعة لحزب “DEM” مبادرة “مدينة المرأة”، التي تهدف إلى إعادة تصميم الفضاءات العامة بطريقة تراعي احتياجات النساء وتضمن مشاركتهن في صنع القرار.

من المقرر أن يُعقد في 8 نوفمبر اجتماع واسع لإطلاق المشروع بمشاركة نقابات ومؤسسات أكاديمية ومنظمات مجتمع مدني، على أن يبدأ التنفيذ في خمس مدن نموذجية هي آمد، إدرميت، جزيرة، نصيبين، ويوكسكوفا.

توضح أدا بازنجر أن هذا المشروع “ليس وليد اللحظة، بل امتداداً لنضال بدأ عام 1999 حين قررت حركة المرأة الكردية خوض الانتخابات المحلية بمرشحات نساء، وتُوّج ذلك عام 2014 بترسيخ نظام الرئاسة المشتركة كآلية للمساواة في التمثيل داخل البلديات”.

وتضيف بازنجر أن المبادرة تهدف إلى تحويل المدن إلى فضاءات نسوية حرة ومتساوية، مشيرة إلى أن النساء يعملن اليوم على استعادة مؤسساتهن وبناء نموذج إداري ديمقراطي بديل يعيد الاعتبار لدور المرأة في الفضاء العام.

رؤية نسوية لبنية عادلة

ترى بازنجر أن السؤال الأهم اليوم هو: “ما هو حق النساء في المدينة؟” موضحة أن المسألة لا تقتصر على الوجود الشكلي، بل تتعلق بإعادة تشكيل بنية المدينة نفسها على أسس المساواة والعدالة. 

وتشير إلى أن المدن الحالية صُممت بعقلية لا تراعي النساء، سواء في النقل أو السكن أو الخدمات، إذ أظهرت دراسة ميدانية شملت 3500 امرأة في ديار بكر أن نقص الإضاءة العامة وضعف المواصلات والأحياء الرطبة كلها عوامل تهدد صحة النساء وأمانهن.

وتحذر بازنجر من أن طمس ذاكرة النساء جزء من عملية الإقصاء الممنهجة، مستشهدة بإغلاق مراكز الدعم واندثار الطقوس الاجتماعية التي كانت تمثل ذاكرة جماعية نسائية، مثل طقوس الأعشاب في حديقة هيفسل التي اندثرت بفعل التحضر.

إحياء ذاكرة النساء

تؤكد بازنجر أن مشروع “مدينة المرأة” يسعى ليس فقط إلى تحسين البنية الحضرية، بل إلى إحياء ذاكرة النساء كجزء من هوية المدن. 

وتشير إلى أن تعيين الأمناء وتفكيك المؤسسات النسائية أدى إلى ارتفاع معدلات العنف ضد النساء، ما يجعل من إعادة بناء المدن ضرورة وجودية وليست مجرد خيار سياسي.

وتختم بقولها: “إن إدراك حجم الخوف والتردد الذي تواجهه النساء في سعيهن نحو الحرية هو الخطوة الأولى في طريق طويل نحو مدن عادلة، حرة، ومُكرِّمة لذاكرة النساء، مدن لا تُقصي نصفها، بل تبنيه على المشاركة والمساواة والكرامة”.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية